الْشَّيْخ الْأَدِيب / مُحَمَّد بْن عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَحْمُوْد ( رَحِمَه الْلَّه )
مَوْلِدُه وَنَسَبَه
الْشَّيْخ الْأَدِيب مُحَمَّد بْن عَلِي بْن مُحَمَّد بْن مَحْمُوْد بْن سَالِم بْن سَعْد بْن عَبْدِالْلَّه بْن رِضَيَان بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيْم بْن عَبْدِالْلَّه بْن مُحَمَّد بْن سُّلْطَان بْن مَحْمُوْد الْتَّمِيْمِي نَسَبا.. وَالْحَنْبَلِي مَذْهَبَا. وُلِد فِي مَدِيْنَة الْشَّارِقَة بِحَي يُسَمَّى (حَي الْشُّيُوخ ) وَذَلِك فِي سَنَة 1330 هـ الْمُوَافِق لِعَام 1911م. وَفِي طُفُوْلَتِه بَدَأ يَمِيْل إِلَى حُب الاكْتِشَاف وَالْبَحْث عَن كُل مَا هُو مُفِيْد لِتَّطْوِيْر ذَاتِه وَبَنَّاء وَصِيَّتَه ، لِذَا كَان يُحِب قِرَاءَة أَنْوَاع مِن الْكُتُب الْتَّرْبَوِيَّة وَالْدِّيْنِيَّة وَالْأَدَبِيَّة وَالْلُّغَوِيَّة . وَقَد سَاعَدَه فِي ذ لِك نَشْأَتِه فِي بَيْت قَام عَلَى الْصَّلَاح وَالْتَّقْوَى، حَيْث كَان وَالِدُه الْتَّاجِر وَالْمُصْلِح الْكَبِيْر عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَحْمُوْد أَوَّل مَن أَسَّس مَدْرَسَة تَطَوُّرِيَّة سَاهَمَت فِي تَعْلِيْم الْأَبْنَاء وَتَثْقِيفُهُم الْثَّقَافَة الْإِسْلامِيَّة وَتَرْسِيخ إِيْمَانِهِم بِأَرْكَان الْإِسْلَام وَحُب الْعِلْم وَالْمَعْرِفَة. لِذَا، كَان لِلْبَيْت الْمُحَافِظ الَّذِي نَشَأ فِيْه مُحَمَّد بْن عَلِي الْمَحْمُوْد وَإِخْوَانِه الْأَثَر الْكَبِيْر فِي نَشْأَتِهِم نَشْأَة دِيْنِيْة وَاسَلامِيّة صِرْفَة قَامَت عَلَى أُسُس مُتَيَّنَة مَن الْكِتَاب وَالْسُّنَّة الْنَّبَوِيَّة- وَقَد تَرَبَّى الْأَبْنَاء: الْشَّيْخ عَبْد الْلَّه وَالْشَّيْخ مُحَمَّد، وَالْشَّيْخ أَحْمَد وَسَالِم الْأَوَّل، عَلَى الْخِصَال الَّتِي زَرَعَهَا فِيْهِم وَالِدُهُم مُنْذ بِدَايَة تُفْتَح عُقُوْلِهِم . كَيْف .. لَا. . وَالْمَحْمُوْد صَاحِب الدَّوْر الْكَبِيْر فِي تَرْبِيَة الْأَجْيَال وَحَثَّهُم عَلَى الْتَّمَسُّك بِعَقِيْدَة الْسَّلَف سَلِيْمَة مِن أَي شَذَرَات أَو مُنَغِّصَات قَد تُؤَثِّر فِي نَشْأَتِهِم . لِذَا أَوْلَى الْمَحْمُوْد أَبْنَاءَه الْصِّغَار الْعِنَايَة الْفَائِقَة وَسَاعَدَهُم كَثِيْرا عَلَى اكْتِسَاب الْعِلْم عَلَى يَد نُخْبَة مِن الْعُلَمَاء الَّذِيْن كَانُوْا يُلْقُوْن الْدُّرُوس فِي الْمَدْرَسَة الْتَّيْمِيَّة الْمَحْمُوْدِيَّة الَّذِي يُدِيْرُهَا الْشِّيَح / عَبْدِالْكَرِيْم الْبَكْرِي ( حُمَّه الْلَّه ). إِذَا، كَان لِلْنَّشْأَة وَالْتَّرْبِيَة الْصَّالِحَة فِي بَيْت اعْتَنَى عِنَايَة خَاصَّة بِالْعِلْم وَالْثَّقَافَة، الدَّوْر الْكَبِيْر فِي بُرُوْز شَخْصِيَّة أدِيبَنا الْكَبِيْر الْجَلِيْل مُحَمَّد بْن عَلِي الْمَحْمُوْد صَاحِب الْمَشَارِيْع وَالْدُّور الْمَعْرُوْف فِي إِرْسَاء دَعَائِم الْثَّقَافَة الْتَّجْدِيْدِيَّة فِي نُفُوْس أَبْنَاء الْأَمْس رِجَال الْيَوْم. نَسَبُه وَعَائِلَتِه تَنْتَمِي عَائِلَة الْمَحْمُوْد إِلَى حَوْطَة بَنِي تَمِيْم فِي نَجْد، وَقَد هَاجَر أَوَّل شَخْص مِن هَذِه الْعَائِلَة وَاسْمُه ” سُلْطَان ” فِي سَنَة 815 هـ الْمُوَافِق لِعَام 1411 م ، وَوَصَل إِلَى سَاحِل الْخَلِيْج الْعَرَبِي ، وَاسْتَقَر بِه الْمَطَاف فِي الْشَّارِقَة مُنْذ خَمْسَة قُرُوْن تَقْرَيْبَا. وَخِلَال تِلْك الْفَتْرَة شَهِدَت الْمِنْطَقَة هِجَرَات مُنَظَّمَة مِن قَلْب الْجَزِيْرَة الْعَرَبِيَّة إِلَى سَاحِل عَمَّان ، وَبَعْض الْقَبَائِل الْعَرَبِيَّة اسْتَقَرَّت فِي الْسَّاحِل الْفَارِسِي ، وَقَد عَاد بَعْضِهَا إِلَى الْخَلِيج الْحَرْبِي . وَقَد هَاجَرَت الْكَثِيْر مِن الْأَسْر، وَانْتَقَل بَعْض الْأَشْخَاص مِن نَجْد لِأَسْبَاب عَدِيْدَة مِن أَهَمَّهَا: الْسَّعْي وَرَاء تَحْسِيْن مَصَادِر الْدَّخْل ، وَبَعْض الْأَشْخَاص الَّذِيْن هَاجَرُوا مِن حَوْطَة بَنِي تَمِيْم خِلَال تِلْك الْفَتْرَة كَانُوْا قَد هَرَبُوْا مِن بَطْش الْأَتْرَاك ، وَبَعْضُهُم خَاصَّة الْعُلَمَاء، هَاجَرُوا فِي سَبِيِل نَشْر الْدَّعْوَة وَمُحَارَبَة الْبِدَع وَتَعْلِيْم الْمُسْلِمِيْن أُصُوْل دِيْنِهِم. تَعْلِيْمِه
تَتَلْمَذ الْشَّيْخ مُحَمَّد وَتَعْلَم عَلَى يَد نُخْبَة مِن الْعُلَمَاء ، وَكَان مِن أَسَاتِذَتْه أَو مُعَلِّمِيْه :الْشِّيَح / عَبْدِالْكَرِيْم الْبَكْرِي ( حُمَّه الْلَّه )، الْشَّيْخ صَالِح مُحَمَّد الْخِلَيْفَي ، وَالْشَّيْخ سَيْف بْن مُحَمَّد المَّدفـع ، وَالْعَالَم الْفَقِيْه مُحَمَّد بْن سَيْف، وَالْشَّيْخ مُشْعَان بْن نَاصِر الْمَنْصُوْر ، وَالْشَّيْخ عَبْدا لَرَّحْمَن بْن مُحَمَّد الْشَامِسُي ..وَقَد دَرَس هَؤُلَاء مُنْذ صِبَاه ،ثُم اعْتَنِى بِنَفْسِه عَن طَرِيْق الْقِرَاءَة وَالاطَّلَاع عَلَى الْكَثِيْر مِن الْكُتُب وَالَّدِّرَاسَات.
تُعَلِّقُه بِالْعِلْم
وَعَن بِدَايَتُه وَحُبَّه لِلْبَحْث عَن كُل مَا هَوَّن جِدِيْد فِي مَجَال الْعِلْم وَالْتَّعْلِيْم مُنْذ الْصِغَر يَرْوِي لَنَا قِصَّة زِيَارَتِه إِلَى الْمَدْرَسَة الْأَحْمَدِيَّة فَيَقُوْل :
كُنْت لَم أَتَجَاوَز الْعَاشِرَة عِنَدَمّا انْطَلَقْت أَنَا وَخَادِم لَنَا اسْمُه “رُبَاع” الَّذِي كَان فِي مِثْل عُمْرِي ، وَأَخَذْنَا الْطَرِيق الْبَحْرِي ، وَمَرَرْنَا بِبَيْت سَالِم بْن مُصَبَّح ، وَبَيْت مَاجِد بْن غُرَيْر، وَوَصَلْنَا إِلَى الْرَّأْس وَمَشَيْنَا، وَلَمَّا تَجَاوَزْنَا بَيْت سَعِيْد بْن بِطَي . وَاقْتَرَبْنَا مِن بَيْت سَعِيْد بْن حَمْدَان بْن دِلْمَوّج سَمِعْنَا أَصْوَات الْطُّلاب. فَقُلْت لِرُبَاع ، إِذَا هُنَا الْمَدْرَسَة، وَعَرَّجْنَا عَلَيْهَا فَوْرَا، فَإِذَا بِّبـاب الْمَدْرَسَة، وَدَخَلْنَا، وَأُعْجِبْت بِبُنْيَانِهَا الْجَمِيْل ، وَفَنَائِهَا وَفُصُوْلِهَا . وَكَان الْطَّلَبَة فِي الْطَّابِق الْعُلَوِي ، أَمَّا فِي الْطَّابِق الْأَرْضِي . فَقَد جَلَس الْشَّيْخ الْمَرْحُوْم “عَبْد الْعَزِيْز بْن أَحْمَد آَل مُبَارَك ” وَأَمَامَه الْطَلَبَة فِي حَلْقَة عِلْمِيَّة مَهِيْبَة. وَيَتَكَوَّن الْطَّابِق الْعُلْوِي مِن أَرْبَعَة فُصُوْل ، ثَلَاثَة فِي فَنَاد وَاحِد مَا بَيْن كُل فَصْل مَسَاحَة . وَفِي الْفَصْل مَقَاعِد مِن الْخَشَب ، أَمَّا الْفَصْل الْرَّابِع وَهُو الْأَكْبَر فَيَقَع فِي الْجَانِب الْشِّمَالِي مِن نَاحِيَة الْبَحْر. وَجَلَسْت أَنَا وَرُبَاع فِي الْجَانِب الْشَّرْقِي خَارِج الْفَصْل أَتَفَرَّج عَلَى الْتَّعْلِيْم ، وَعَلَى جَانِبِي غُرْفَة كَبِيْرَة مُنَظَّمَة كَانَت مُخَصَّصَة لِلمَدَرِسِين . وَخَرَجْت مِن الْمَدْرَسَة وَعَدْت فِي الْيَوْم الْثَّانِي وَهَكَذَا تَكَرَّرَت زِيَارَاتِي، وَفِي الْيَوْم الْثَّالِث كَان رُبَاع بِجَانِبِي ، وَإِذَا بِالْشَّيْخ “عَبْدِاللّه الْوَهَيْبِي” الْمَعْرُوْف بِالمُزّين مُدِيْر الْمَدْرَسَة يَفْتَح عَيْنِه ويُصَوبِهَا عَلَيْنَا، كَأَنَّه يَقُوْل إِن هَذَا الْوَلَد، الْيَوْم لَه ثَالِث يَوْم يَأْتِي وَيَجْلِس هُنَا، مَن هُو وَمَاذَا يُرِيْد؟ وَرْد عَلَيْه الْطَّلَبَة مُؤَيِّدِيْن. وَكَان مِن بَيْنِهِم الْأَدِيب الْمَرْحُوْم “أَحْمَد بْن سُّلْطَان بْن سُلَيْم”. وَجَاء الْمَدِير يَمْشِي مَهْلَا مَهْلَا، وَجَلَس عِنْدِي وَقَال لِي “يَا ابْنِي انْتَه وُلِد مِن ؟،،. فَقُلْت لَه . . أَنَا وَلَد عَلَي بْن مَحْمُوْد.. وَمَا كَاد يَسْمَع الْكَلِمَة إِلَّا وَفَرِح وَطَفِق سُرُوْرَا، فَقَال “انْتَه وُلِد الْحَاج عَلِي”.. فَقُلْت : “نَعَم”. فَقَال .. “أَهْلَا وَسَهْلَا،” “أَقُوْل حَق أَبُوْك ايِيَبك هُنَا عِنْدَنَا فِي الْمَدْرَسَة”. وَكَانَت تِلْك هِي أَوَّل زِيَارَة لِي لِلْمَدْرَسَة الْأَحْمَدِيَّة.
وَقَبْل ذَلِك دَرَسَت فِي مَدْرَسَة فَتَحَهَا الْمَرْحُوْم “عُبَيْد بْن عِيْسَى الِنَابُوَدّة” وَكَانَت تَتَشَبَّه بِالْأَحْمَدِيَّة لَكِنَّهَا مُصَغَّرَة، وَاسْتَمَرَّت سَنَتَيْن وَقَد تَعَلَّمْت فِيْهَا سَنَة وَاحِدَة ثُم انْتَقَلَت إِلَى الْمَدْرَسَة الْسَّالِمِيَّة، الَّتِي أَشْرَف عَلَى إِدَارَتُهَا “صَالِح بْن مُحَمَّد الْخِلَيْفَي”، وَهُو رَجُل جَمَع بَيْن الْعُلُوْم الْشَّرْعِيَّة وَالْمَنَاهِج الْعَصْرِيَّة. وَكَان قَارِئَا وَذَا صَوْت جَمِيْل . وَخَط جَمِيْل ، وَمُتَوسّعا فِي الْرِّيَاضِيَّات ، وَتَعَلَّمْت عَلَى يَدَيْه فِي الْسَّالِمِيَّة ثَلَاث سَنَوَات ، وَبَعْد ذَلِك كُنْت مَع الْوَالِد فِي الْبَحْرَيْن فِي سَنَة 1347 هـ – الْمُوَافِق 1928 م وَالْتَحَقَت بِمَدْرسُه “الْهِدَايَة الْخُلَيْفَيَّة” بِالْبَحْرَيْن لِمُدَّة أَرْبَعَة شُهُور، وَهِي مُدَّة إِقَامَة وَالِدُنَا فِي الْمَنَامَة حَيْث كَان يُتَاجِر بِالْلُّؤْلُؤ. وَقَد كَان سُوْق الْلُؤْلُؤ فِي الْبَحْرَيْن مِن أَشْهَر الْأَسْوَاق فِي الْخَلِيْج الْعَرَبِي، وَأَكْثَرُهَا رَوَاجا وَنَشَاطَا.
وَيَتَّضِح لَنَا مِن خِلَال هَذِه الرِّحْلَة فِي الْتَّعْلِيْم فَضْل الْشَّيْخ عَلِي فِي تَوْجِيْه أَبْنَائِه وَتَعْلِيْمِهِم وَأَن نَشْأَة الْشَّيْخ مُحَمَّد وَتَعْلِيْمِه فِي تِلْك الْمَدَارِس ، سَاعَد كَثِيْرَا فِي صَقْل مَوْهِبَتُه وَتِسْع ثَقَافَتِه.
مَلَامِح مِن حَيَاتِه
وَلْنَبْدَأ أَوَّلَا بِبَعْض مَلَامِح حَيَاتِه وَأَثُر الْبِيْئَة عَلَيْهَا.. وَفِي اعْتِقَادِي أَن الِانْبِعَاث الْجَمِيل فِي شَخْصِيَّة “مُحَمَّد بْن عَلِي الْمَحْمُوْد” تُمَتِّعَه بِذَاكِرَة يَقَظَة وَمَنْطِق سَلِيْم ، وَرُؤْيَة دَقِيْقَة لِلْأُمُور. فَهَذِه الْدَّلَالَات هِي مِن الْمُكْتَسَبَات الَّتِي تَكَوَّنَت لَدَيْه مَع مُرُوْر الْزَّمَن ، وَفِي مُجْتَمَع كَانَت الْأُمِّيَّة تُسَيْطِر عَلَيْه.
وَرَغِم ذَلِك ظَهَرَت فِي هَذَا الْوَقْت شَخْصِيَّات مُمَيِّزَة قَامَت بِمُسَاهَمَات وَأَعْمَال لَا يُمْكِن إِغْفَالَهَا مِن الْتَّارِيْخ الْحَدِيْث لِلإِمَارَات . وَمِن هَذِه الْشَّخْصِيَّات الْشَّيْخ مُحَمَّد الَّذِي بَدَأ حَيَاتِه مُنْذ الْصِغَر بِحُب الْمُطَالَعَة وَالْقِرَاءَة فِي الْكُتُب الْمُتَنَوِّعَة، فَنَمَت بِدَاخِلِه رَغْبَة شَدِيْدَة نَحْو الْحُلْم وَالْتُعْلِيْم ، وَازْدَادَت ثَقَافَتِه مَع وُجُوْد الْبِيْئَة وَالْمُجْتَمَع الْصَّالِح . فَقَد كَانَت الْشَّارِقَة فِي ذ لِك الْوَقْت بُؤْرَة
ضَوْء ظَهَر فِيْهَا الْتَّعْلِيْم وَالْثَّقَافَة، حَيْث تَأَسَّسَت فِي الْشَّارِقَة وَقْتَذَاك أَوَّل مَدْرَسَة تَطَوُّرِيَّة أَو شِبْه حَدِيْثَة – كَمَا يُطْلَق عَلَيْهَا الْشَّيْخ مُحَمَّد. إِذ يَقْسِم الْتَّعْلِيْم إِلَى ثَلَاث مَرَاحِل ، أَوَّلَا “مَرْحَلَة الْتَّعْلِيْم الْسَّلَفِي ” وَهِي عِنْد الْمْطَوِّع ، وَكَانَت الْدِّرَاسَة دِيْنِيْة مَن الْكِتَاب وَالْسُّنَّة . وَثَانِيَا “ا لِتَعْلِيْم التَّطَوُّرِي ” ، وَخِلَالَهَا ظَهَرَت الْمَدَارِس شِبْه الْنِّظَامِيَّة، وَالَّتِي تَطَوَّرَت عَن الْتَّعَلِّيـم الْسَّلَفِي الْقَائِم فِي الْكَتَّاتِيب ، وَثَالِثَا مَرْحَلَة الْتَّعْلِيْم الْنِّظَامِي، أَو الْحَدِيْث ، وَبَدَأ مُنْذ افْتِتَاح أَوَّل مَدْرَسَة نِظَامِيَّة، أَلَّا وَهِي الْمَدْرَسَة الْقَاسِمِيَّة بِالشَارِقة الَّتِي كَان لِلْشَّيْخ مُحَمَّد دَوْر بَارِز فِي غَرْس بِذْرَتُهُا ، إِذ أَن الْتَّعْلِيْم الْنِّظَامِي تَطَوُّر مِن مَدْرَسَة الْإِصْلاح الَّتِي كَانَت تُحَرِّف بِالْإِصْلَاح الْأُم . ثُم سُمِّيَت بِالْإِصْلَاح . وَبَعْد الْحَرْب الْعَالَمِيَّة الْثَّانِيَّة أَطْلِق عَلَيْهَا (الْإِصْلاح الْقَاسِمِيَّة). فَلَقَد أَسَّس الْشَّيْخ مُحَمَّد فِي هَذِه الْمَدْرَسَة نِظَامَا تَعْلِيْمِيَّا مُخْتَلِفا،) وَمُتُطَوِّرَا عَن بَاقِي الْمَدَارِس الْتَطَوُّرِيَّة؟ وَهَذَا مَهَّد الْطَرْيْق ، وَهَيَّأ الْأَسْبَاب لِظُهُوْر الْتَّعْلِيْم الْحَدِيْث وَنَشْأَة أَوَّل مَدْرَسَة نِظَامِيَّة فِي الْإِمَارَات عَام 1953 م وَالَّتِي تَطَوُّر مِن خِلَالِهَا الْتَّعْلِيْم ، ثُم افْتُتِحَت الْمَدَارِس فِي مُخْتَلِف إِمَارَات الْسَّاحِل. فِي ذَلِك الْوَقْت كَان الْتَّعْلِيْم فِي صُلْب الْثَّقَافَة، وَالْثَّقَافَة فِي صُلْب الْتَّعْلِيْم. فَقَد اعْتَمَد الْفِكْر الْتَّعْلِيْمِي عِنْد “”مُحَمَّد الْمَحْمُوْد” وَغَيْرِه مِن الْأَوَائِل فِي بِدَايَة ظُهُوْرِه عَلَى الْثَّقَافَة الَّتِي تَأَصَّلَت بِتَفْاعُّل الْمُثَقَّفِيْن مَع الْتَّعْلِيْم ، حَيْث أَن الْتَّعْلِيْم كَان الْمُنْطَلَق وَالْعَمُوْد الْفَقَرِي لِتَّأْصِيْل ثَقَافَات مُسْتَمَدَّة جُذُوْرُهَا وَأَشْكَالِهَا مِن الْنَّظْرَة الْوَاقِعِيَّة لِلْحَيَاة. وَقَد تَعَدَّدَت الْرُّؤْيَا لَكِنَّهَا اتَّجَهَت لِتَحْقِيْق هَدَف وَاحِد أَلَا وَهُو الْتَّطْوِيْر وَالتَّحْدِيْث وَالْتَّغْيِيْر، فَقَد وُلِدْت حَرَكَة الْتَّعْلِيْم إِضَافَة إِلَى انْتِشَار الْأَفْكَار الّتَّحرُّرِيَّة نَوْعَا مِن الانْتِفَاضَة الْدِينَامِيكِيَّة الَّتِي أُخِذْت تَتَزَايَد يَوْمَا بَعْد يَوْم مَع تَوَفُّر الْدَّوَافِع وَالْمُسَبَّبَات ، وَهَذَا الْوَضْع أَكْثَر مَا ظَهَر مُنْذ مَطْلَع الْقَرْن الْعِشْرِيْن.
فَفِي الْشَّارِقَة ظَهَرَت الْمَدَارِس شِبْه الْنِّظَامِيَّة وَالْمَكْتَبَات وَالْمَجَالِس وَالْمُنْتَدَيَات ، وَالْصَّحَافَة وَالْنَّوَادِي الْثَّقَافِيّة وَالْرِّيَاضِيَّة. وَبَذَل الْتُجَّار فِي ت لِك الْوَقْت ، وَهُم “تُجَّار الْلُّؤْلُؤ) الْكَثِيْر مِن الْجَهْد وَالْمَال فِي تَّأْسِيْس تِلْك الْرَّوَافِد الْحَضَارِيَّة الْبِدَائِيَّة فِي مُجْتَمَع عَانَى مِن الْفَقْر وَالْأُمِّيَّة وَانْتِشَار الْأَوْبِئَة وَسَيْطَرَة الِاسْتِعْمَار الْأُوْرُوبِّي . وَلَم يَكُن هَدّا الْوَضْع إِلَا حَلْقَة مَن حَلَقَات الْتَّارِيْخ ، يَجِب عَلَيْنَا أَن نُدَرِّسُهَا جَيِّدَا لِنَتَعَرَّف عَلَى جَوَانِبِهَا الْمُخْتَلِفَة حَتَّى نَسْتَطِيْع أَن نَقِف عَلَى صُوْرَة مَن صَوَّر الْحَيَاة فِي ذَلِك الْزَّمَن . وَمِن هَذَا الْوَاقِع ، وَفِي الْشَّارِقَة تَحْدِيْدا، وَالَّتِي كَان تَارِيْخِهَا السِّيَاسِي وَالِاجْتِمَاعِي مَشْهُوْدا بِالْكَثِيْر مِن الْأَحْدَاث ، كَانَت الْصُّوَرَة أَدَق وَأَوْضَح فِي عَهْد الْشَّيْخ سُلْطَان بْن صَقْر الْكَبِيْر، زَعِيْم الْقَوَاسِم ، الَّذِي يَعُوْد إِلَيْه الْفَضْل فِي تَّأْسِيْس دَعَائِم الْمُجْتَمَع الْمَحَلِّي الْمُتَطَلِّع إِلَى الْنُّهُوْض وَالتَّخَلُّص مِن قَبْضَة الاسْتِعْمَار وَهَيْمَنَتِه عَلَى الْمِنْطَقَة. وَقَبْل ذ لِك ارْتَبَطَت الْحَيَاة الْسِّيَاسِيَّة، وَالازْدِهَار ا لتِجَارِي وَالْفِكْرِي وَالْثَّقَافِي خِلَال قُرُوْن عَدِيْدَة بِوُجُوْد مَدِيْنَة جُلْفَار، ثُم رَأْس الْخَيْمَة الْعَاصِمَة الْتَّارِيْخِيَّة. لِلقَوَاسْم، مُنْذ ظُهُوْرِهِم كَزُّعَمَاء فِي مُنْتَصَف الْقَرْن الْثَّامِن عَشَر الْمِيْلَادِي ، فَخِلَال تِلْك الْفَتَرَات الْمُتَقَطِّعَة مُر الْتَّعْلِيْم بِعِدَّة مَرَاحِل ، إِذ صَاحِب ذَلِك تَجْدِيدَات وَتَغْيِيْرَات أَخَذَت أَشْكَالا مُخْتَلِفَة عَمَّقَت مِن الْمَفْهُوْم الْحَضَارِي لِلْتَّعْلِيْم الْمَبْنِي عَلَى الْإِصْلاح وَالَتأهّيَل