الْشَّيْخ / عَلَي بْن مُحَمَّد الْمَحْمُوْد ( رَحِمَه الْلَّه )
الْشَّيْخ عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَحْمُوْد مِن الْتُّجَّار القَلَائِل الَّذِيْن سَاهَمُوَا مُسَاهَمَة كَبِيْرَة مُنْذ مَطْلَع الْقَرْن الْعِشْرِيْن وَحَتَّى مُنْتَصَف الثَلاثِينِّيَات فِي خِدْمَة بَلَدِه (امّارَة الْشَّارِقَة) سَوَاء فِي بِنَاء الْمَدَارِس او دَعْم الْتَّعْلِيْم او اصْلَاح ذَات الْبَيْن وَمُحَارَبَة الْفَسَاد.. وَهُو يَنْتَمِي لِآَل مَحْمُوْد احْدَى الاسْر الْعَرَبِيَّة الْعَرِيْقَة الَّتِي تَنْتَمِي الَى قَبِيْلَة بَنِي تَمِيْم بِنَجْد فِي الْمُمَلَّكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة حَيْث هَاجَر شَخْص اسْمُه (سُلْطَان بْن مَحْمُوْد) عَام 1411 الَى الْشَّارِقَة بَحْثَا عَن الْحَيَاة الْكَرِيْمَة وَسَعْيَا وَرَاء الْكَسْب, حَيْث اشْتَهَرَت تِلْك الْفَتْرَة بِالْهِجْرَات مِن قَلْب الْجَزِيْرَة الْعَرَبِيَّة الَى الْخَلِيْج الْعَرَبِي.
وَمُنْذ مَجِيْء سُلْطَان بْن مَحْمُوْد الَى الْشَّارِقَة اشْتَهَرَت عَائِلَة ال مَحْمُوْد وَتَكَاثَرُوْا فِي بَلْدَة الْشَّارِقَة وَكَان سَكَنِهِم الْاصْلِي فِي حَي الْسُّوْق بِمَدِيْنَة الْشَّارِقَة وَفِي عَام 1916 بَنَى الْشَّيْخ عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَحْمُوْد بَيْتا كَبِيْرا فِي الْحَيْرَة وَاتَّخَذ مِنْه مُسَكِّنا لَه وَلِأَبْنَائِه, فَقَد تَزَوَّج عَلِي الْمَحْمُوْد مِن شَقِيْقِه الْشَّيْخ مُبَارَك بْن سَيْف النَاخِي وَكَذَلِك تَزَوُّج ابْنَاؤُه مِن بَنَات الْشَّيْخ سَيْف النَاخِي.
لَكِنَّه ظَل يَتَرَدَّد عَلَى الْشَّارِقَة فَهِي مَسْقَط رَأْسِه وَالْجَدِير بِالْذِّكْر ان اسْرَة الْمَحْمُوْد لَهَا ارْتِبَاط بِالْمُصَاهَرَة وَالْرَّحِم بِثَلَاث اسَر فِي الْشَّارِقَة (ال نَاخِي وَآَل مَدْفَع وَآَل نَوْمَان) وَهِي مِن اكْبَر وَاشْهَر الاسْر فِي الْشَّارِقَة.. وَفِي عَام 1938 وَبَعْد ثَلَاث سَنَوَات مِن وَفَاة الْشَّيْخ عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَحْمُوْد انْتَقَلَت اسْرَة الْمَحْمُوْد الَى الْشَّارِقَة حَيْث انْضَمَّت العَائِلَتَان الَّتِي فِي الْحَيْرَة وَالَّتِي فِي الْشَّارِقَة فِي بَيْت وَاحِد وَهُو الْبَيْت الْوَاقِع فِي الْشَّرْق مِن الْبِلَاد.. وَكَان ذَلِك بِنَاء عَلَى رَغْبَة الْشَّيْخ سُلْطَان بْن صَقْر الْقَاسِمِي حَاكِم الْشَّارِقَة آَنَذَاك.
وَلَد عَلَي بْن مُحَمَّد بْن عَلِي بْن مَحْمُوْد بْن سَالِم بْن سَعْد بْن عَبْدِالْلَّه بْن رِضَيَان بِن احْمَد بْن ابْرَاهِيْم بْن عَبْدِالْلَّه بْن مُحَمَّد بْن سُّلْطَان بْن مَحْمُوْد الْتَّمِيْمِي عَام 1268هــ الْمُوَافِق 1844م وَعَاش حَيَاة مَدِيْدَة حَتَّى 1354هــ الْمُوَافِق 1935م وَكَان حَنْبَلِي الْمَذْهَب وَسَلَفِي الْعَقِيْدَة.. امّارَة الْشَّارِقَة مَسْقَط رَأْسِه وَمَنْشَأَه وَمِنْهَا وَإِلَيْهَا ارْتَاد كَثِيْر مِن الْاسْفَار, كَان قَوِي الْشَّخْصِيَّة يُجَاهِر بِالْحَق وَلَا يَخْشَى شَيِئَا وَكَان مَجْلِسِه يَضُم كَثِيْرا مِن الْوُجَهَاء وَالْعُلَمَاء, أَغْلَبُهُم مِن الْنَّجْدِيِّيْن مِمَّا أَثَار حَفِيْظَة الانْجِلِيْز فَاتَّهِمُوْه بَّاثَارَة الْمَتَاعِب لَكِنَّه لَم يَعْبَأ بِتَهْدِيْدَات الانْجِلِيْز لَه بِالْنَّفْي اذ اسْتَمَر فِي ذَلِك مُؤَكَّدا ان الْنَّجْدِيِّيْن اخْوَانِه يَأْتُوْن الَى دِيَارِه كَيْفَمَا شَاؤُوْا فِي حِيْن يَأْتِي الَيْهِم الانْجِلِيْز وَلَا رَابُطَة تَرْبِطُهُم بِالْعَرَب.
كَان الْشَّيْخ عَلِي الْمَحْمُوْد مَشْهُوْرَا بِجُرْأَتِه فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوْف وَالْنَّهْي عَن الْمُنْكَر وَيُذْكَر لَه الْتَّارِيْخ أَحْدَاثَا عَدِيْدَة فِي هَذَا الْصَّدَد, كَمَا تَمِيْز ايْضا بِمَوَاقِفِه الْنَّبِيّلَة وَصَلَاتُه الْقَوِيَّة مَع حُكَّام الَامَّارَات الَّذِيْن كَانُوْا يَثِقُوْن فِي صَرَاحَتُه وَآَرَّائِه وَصِدْقَه فِي حِل الْمَشَاكِل وَاصْلاح ذَات الْبَيْن.
وَقَد كَان لَه ثَلَاثَة مَجَالِس مُشَرَّعَة الْابْوَاب لَيْل نَهَار, تَعُج بِالْنَّاس مِن مُخْتَلِف الْانْحَاء, غُرَبَاء وَأَقْرِبَاء وَكَانَت وَلَائِمِه لَا تَنْفُض إِطْعَامَا لِلْاصْدِقاء وَالْضُّيُوْف وَلِلْغُرَبَاء وَالْمَسَاكِيْن وَلَم تَكُن تِلْك الْمَجَالِس تَخْلُو مِن ذَوِي الْعُلُوم وَالْأَدَب وَالْأَمْثَال خَاصَّة عُلَمَاء نَجْد وَقَد ذَكَر الْبِرِيطَانِيُّوْن فِي مُذَكِّرَاتِهِم الَّتِي لَاتَزَال مَحْفُوْظَة لَدَيْهِم حَتَّى الان (ان عَلَي الْمَحْمُوْد رَأْس الْنَّجْدِيِّيْن فِي الْشَّارِقَة وَصِهْرِه مُبَارَك بْن سَيْف النَاخِي رَجُل ثَوْرِي).
اشْتَغَل الْشَّيْخ عَلِي الْمَحْمُوْد رَحِمَه الْلَّه بِالْتِّجَارَة وَكَان لَه بَاع طَوِيْل فِي تِجَارَة الْلُّؤْلُؤ وَكَانَت عَلَاقَتَه الْطَّيِّبَة بِشُيُوخ الَامَّارَات تَجْعَلُهُم يُفَضِّلُوْنَه عَلَى غَيْرِه وَيَبِيْعُوْن لَه الْلُّؤْلُؤ لَاسِيَّمَا الْشَّيْخ رَاشِد بْن احْمَد الْمَعْلُا حَاكِم ام الْقَيْوَيْن الْسَّابِق.. وَرَغْم انَّه لَم يَكُن يَمْتَلِك سُفُنِا خَاصَّة بِه تَخْرُج لِرِحْلات الْغَوْص وَتَأْتِي لَه بِالْلُّؤْلُؤ الَا انَّه كَان يُمَوِّل الْعَدِيْد مِن الْسُفُن الْعَامِلَة فِي تِلْك الْرِحْلَات لاهَالِي الْمِنْطَقَة شَأْنِه شَأْن الْكَثِيْرِيْن مِن تُجَّار الْلُؤْلُؤ فِي الْبِلَاد, وَالَى جَانِب ذَلِك يَطُوْش (يَشْتَرِي) وَيَبِيْع الْلُؤْلُؤ فِي الْبَحْرَيْن وَالْهِنْد وَدُبَي, كَمَا اشْتَغَل ايْضا بِتِجَارَة الْمَوَاد الْغِذَائِيَّة وَالاقْمِشَة حَيْث كَان مِن القَلَائِل الْذِيْن انْتَبِهُوْا فِي ذَلِك الْوَقْت الَى اهمّيّة تُنَوِّع النَّشَاط الْتِّجَارِي, لِذَلِك اسْتُثْمِر مَرْدُوْدَه مِن (الطْوَاشَة) فِي هَذِه الْتِّجَارَة وَكَذَلِك فِي الْعَقَارَات الَّتِي تَرَكَّزَت فِي بِنَاء المَحلات الْتِّجَارِيَّة وَقَد أَوْكَل اسْتِثْمَاراتِه الْتِّجَارِيَّة وَالْعَقَارِيَّة الَى اثْنَيْن مِن الْوُكَلَاء احَدُهُمَا فِي الْشَّارِقَة وَالاخِر فِي دُبَي.
وَيُذْكَر انَّه خِلَال سَنَوَات الْحَرْب الْعَالَمِيَّة الاوْلَى (1914 ــ 1918م) ارْتَفَعَت الْأَسْعَار وَقُلْت الْبَضَائِع وَنَدَرَت الْمَؤُونَة مِمَّا أَوْقَع الْنَاس فِي شِدَّة وَبُؤْس وَكَانَت امَكَانِّيَات الْبِلَاد آَنَذَاك مَحْدُوْدَة وَسَوْق الْلُّؤْلُؤ بَدَأ يَتَدَهْوَر, حِيْنَهَا بَادِر الْمَحْمُوْد بمُسَاهِمَاتِه وَمَن أَبْرَزَهَا تَعْيِيْنُه احَد الْقُضَاة فِي الْشَّارِقَة عَلَى نَفَقَتِه الْخَاصَّة تَعَاوُنا مِنْه عَلَى سَد حَاجَة الْبِلَاد مَع حُكَّامِهَا وَلِلنُّهُوّض بِشَأْن الْعِلْم وَالْقَضَاء وَالافْتَاء وَكَان ذَلِك أَثْنَاء حُكْم الْشَّيْخ سُلْطَان بْن صَقْر الْقَاسِمِي.
وَمِمَّا لَاشَك فِيْه ايْضا ان الْشَّيْخ عَلِي بْن مُحَمَّد بْن عَلِي الْمَحْمُوْد كَان رَائِدَا فِي دَعْم الْتَّعْلِيْم بّالامَارَات وَتَشْجِيعِه وَذَلِك بِالانِّفَاق عَلَيْه وَبِالمُسَاعدَّات الَّتِي قَدَّمَهَا وَتَأْسِيس الْمَدَارِس خَاصَّة الْمَدْرَسَة الْتَّمِيْمِيَّة الْمَحْمُوْدِيَّة و يُدِيْرُهَا فَضِيْلَة الْشَّيْخ عَبْدِالْكَرِيْم بْن عَلِي الْبَكْرِي الَّتِي انْشِئَت 1907 وَاسْتَمَرَّت حَتَّى 1920م وَكَذَلِك مُسَاعَدَتُه لِلْمَدْرَسَة الوهَيبِيّة فِي بَلْدَة الْحِمْرِيَّة عَام 1911م وَالْمَدْرَسَة الَّتِي انْشَأَهَا لِلاسْتَاذ صَالِح بْن مُحَمَّد الْخَلِيف بِالشَارِقة وَالَّتِي انْتَقَلَت بَعْد ارْبَع سَنَوَات الَى دُبَي ومُسَاهِمَاتِه فِي تَّأْسِيْس اوَّل مَدْرَسَة تَطَوُّرِيَّة فِي دَوْلَة الْكُوَيْت وَهَذَا بَعْد ان تَلْقَى رَسَائِل مِن بَعْض بِلَاد الْخَلِيْج تَطْلُب فِيْهَا مُسَاعَدَتُه لِتَّأْسِيْس اوَّل مَدْرَسَة فِي الْبِلَاد وَتُؤَكِّد الْوَثَائِق الْخَطِيَّة قِيَامِه بِتَقْدِيْم مَا أَعَانَه الْلَّه عَلَيْه فِي هَذَا الْمَجَال.
لَكِن تَبْقَى الْمَدْرَسَة الْتَّمِيْمِيَّة الْمَحْمُوْدِيَّة الَّذِي يُدِيْرُهَا فَضِيْلَة الْشَّيْخ عَبْدِالْكَرِيْم بْن عَلِي الْبَكْرِي مَن ابْرُز الانْجَازَات الْثَّقَافِيّة وَالاجْتِمَاعِيَّة وَالْخَيْرِيَّة الْمُثْمِرَة لِلْشَّيْخ الْمَحْمُوْد, تِلْك الْمَدْرَسَة الَّتِي أَنْشَأَهَا عَام 1907 بِالشَارِقة وَالَّتِي ظَلَّت مَا يُقَارِب عِشْرِيْن عَاما مَنَارَة الْعِلْم وَالْتَّعْلِيْم فِي الْامَّارَة وَعَلَامَة بَارِزَة فِي بِدَايَات تَطَوُّر الْتَّعْلِيْم فِي الَامَّارَات وَظَلَّت الْشُّعْلَة الَّتِي أَضَاءَت مَا حَوْلَهَا وَانْطَلَقْت مِنْهَا رِسَالَة الْهُدَى وَالْعِلْم.
وَقَد خَرَج مِن هَذِه الْمَدْرَسَة الْعَدِيْد مِن الْرِّجَال الْعُظَمَاء فَأَوَّل خِرِّيْج مِن دَوْلَة الَامَّارَات وَهُو الْشَّيْخ مُحَمَّد بْن سَعِيْد بْن غَبَّاش خِرِّيْج الْازْهَر الْشَّرِيْف عَام 1929 مِن أَبْنَائِهَا, كَمَا انَهَا اوْفَدْت اوَّل بِعْثَة دِرَاسِيَّة مِن طَلَبْتَهَا لِاسْتِكْمَال تَعْلِيْمُهُم خَارِج الَامَّارَات لِيَعُوْدُوْا قُضَاة وَمُفَتَين ووُعّاظَا وَخُطَبَاء وَمُعَلِّمِيْن.
وَقَد اهْتَم الْمَحْمُوْد بَان يَخْتَار الَى جِوَارِه نُخْبَة مِن الْعُلَمَاء الْافَاضِل تَكَوَّنَت مِنْهُم هَيْئَة الْتَّدْرِيس وَكَان يُدِيْرُهَا فَضِيْلَة الْشَّيْخ عَبْدِالْكَرِيْم بْن عَلِي الْبَكْرِي مَن الْقَصِيْم بِالْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة.. وَكَان الْمَنْهَج الَّذِي يَتِم تَدْرِيْسِه بِالْمَدْرَسَة قَرِيْب مِن مَنْهَج الْتَّعْلِيْم بِالمَدارِس الْمِصْرِيَّة, فِيْمَا عَدَا بَعْض الْمَوَاد الَّتِي تَطْلُبُهَا احْتِيَاجَات الْدِّرَاسَات الْمَحَلِّيَّة وَالْبيئيّة فِي الْشَّارِقَة.
وَفِي عَام 1909 تَم انْشَاء الْمَكْتَبَة الْتَّمِيْمِيَّة الَّتِي احْتَوَت عَلَى كَثِيْر مِن الْكُتُب الْهَامَّة وَكَثِيْرا مَا كَان يُلْقَي بِهَا الْدُّرُوس وَالْمُحَاضَرَات الَّتِي تُنَاسِب الْوَاقِع الْمُحِيْط.
وَمِمَّا يُؤَكِّد اهْتِمَام الْشَّيْخ الْمَحْمُوْد بِالْعِلْم حِرْصِه عَلَى ان يُنْتَفَع طَلِبَة الْمَدْرَسَة الْتَّمِيْمِيَّة بِعِلْم الْشَّيْخ الْجَلِيْل الْمَرْحُوْم مُحَمَّد بْن عَبْدِالْعَزِيْز الْمَانِع الَّذِي تَلْقَى الْعِلْم فِي مِصْر وُبَغْدَاد, لَكِنَّه كَان يَقُوْد حَرَكَة التَّعْلِيْم فِي قَطْر وَلَم يَتَمَكَّن مِن الْحُضُوْر الَى الْشَّارِقَة, لِذَا فَقَد أُعْلِن الْشَّيْخ الْمَحْمُوْد ان مَن يُرْغَب مِن أَبْنَاء الَامَّارَات ان يَتَعَلَّم عَلَى يَد الْشَّيْخ ابْن مَانِع فَانَّه يَتَعَهَّد لَه بِكُل لَوَازِمِه, فَاسْتَجَاب نَحْو خَمْسَة وَعِشْرِيْن طَالِبُا قَام بِإِيُفَادَهُم الَى قَطَر وَتَحْمِل اعْباء وَلَوَازِم اقَامَتِهِم هُنَاك.. وَهَكَذَا عَاش الْشَّيْخ الْمَحْمُوْد حَتَّى آَخِر يَوْم فِي عُمُرِه مِن أَجْل خِدْمَة بِلَادِه وَرِفْعَتِهَا.